تفضل. إليك المقالة الحادية والثلاثون، بأسلوب “تحليل السبب والنتيجة” (Cause and Effect Analysis) أو ما يُعرف بـ “مخطط هيكل السمكة” (Fishbone Diagram)، وهو هيكل تحليلي صارم لم نستخدمه من قبل.
المقالة الحادية والثلاثون: كيف تؤثر السياسة على الاقتصاد العربي؟ (تحليل هيكلي)
المقدمة: تشريح المشكلة
العلاقة بين السياسة والاقتصاد تشبه علاقة “نظام التشغيل” (Operating System) بـ “البرامج” (Software). لا يمكن لأي برنامج (اقتصادي) أن يعمل بكفاءة إذا كان نظام التشغيل (السياسي) غير مستقر، أو قديماً، أو مصمماً لأغراض أخرى.
عندما نطرح سؤال: “لماذا لا يحقق الاقتصاد العربي كامل إمكاناته؟”، فإن الإجابة تكمن في “هيكل السمكة” التالي. “الرأس” (المشكلة) هو “اقتصاد مقيد بإمكانات ضائعة”. أما “الأشواك” (الأسباب)، فهي سياسية بامتياز.
المشكلة (رأس السمكة): اقتصاد يعمل بأقل من طاقته الحقيقية
الهيكل الأول: “اللااستقرار” الجيوسياسي (The “Instability” Bone)
هذا هو السبب الأكثر تدميراً ومباشرة. الاقتصاد يحتاج إلى “اليقين” ليزدهر، والسياسة في المنطقة غالباً ما توفر “الشك”.
- 1.1. الصراعات المباشرة: الحروب الأهلية والنزاعات (كما في السودان، اليمن، سوريا) ليست مجرد “أحداث سياسية”، بل هي “عمليات هدم” اقتصادية. هي تدمر “الأصول” (المصانع، الطرق، الموانئ) وتقتل “القوة العاملة”.
- 1.2. الصراعات غير المباشرة (التهديد): حتى في الدول المستقرة، مجرد “خطر” امتداد الصراع (مثل التوترات حول غزة أو في ممرات الشحن) يرفع “علاوة المخاطرة” (Risk Premium). هذا يجعل المستثمر الأجنبي يتردد، ويجعل المستثمر المحلي “يهرّب” أمواله للخارج (Capital Flight) بدلاً من إعادة استثمارها.
- 1.3. تدمير القطاعات الحيوية: السياسة غير المستقرة تقتل “السياحة” أولاً. السائح لن يأتي إلى منطقة “متوترة”. كما أنها تعطل “سلاسل الإمداد” وتجعل التجارة البينية شبه مستحيلة.
الهيكل الثاني: طبيعة “العقد الاجتماعي” (The “Social Contract” Bone)
هذا السبب “هيكلي” وعميق. “وظيفة” الاقتصاد يتم تحديدها سياسياً.
- 2.1. “الاقتصاد الريعي” (الدول النفطية): السياسة هنا تاريخياً قامت على “التوزيع” وليس “الخلق”. الدولة (المدفوعة سياسياً) هي “الموظِّف الأكبر” (القطاع العام) و”الموزع” (الدعم). هذا يخلق اقتصاداً “يعتمد” على قرار سياسي (سعر النفط)، ويضعف “القطاع الخاص” التنافسي الحقيقي.
- 2.2. “اقتصاد الخوف من الإصلاح” (الدول غير النفطية): في دول أخرى، تحتاج الاقتصادات إلى “إصلاحات مؤلمة” (مثل رفع الدعم، تحرير سعر الصرف). لكن “القرار السياسي” غالباً ما يكون “شعبوياً” وخائفاً من “رد الفعل” الاجتماعي. النتيجة: يتم “تأجيل” القرارات الاقتصادية الصحيحة، مما يؤدي إلى تفاقم الأزمة (كما حدث في لبنان ودروس مصر السابقة).
الهيكل الثالث: “البيروقراطية” كأداة سيطرة (The “Bureaucracy” Bone)
هنا، لا تكون “القوانين” مجرد تنظيم، بل أداة “نفوذ” سياسي.
- 3.1. التشريع كعائق: السياسات التي لا تثق في “القطاع الخاص” تنتج “غابة” من القوانين، والتراخيص، والموافقات. هذا “الروتين” البيروقراطي (Red Tape) ليس “إهمالاً” إدارياً، بل هو غالباً “مقصود” ليمنح “النظام” سيطرة على من يعمل ومن لا يعمل.
- 3.2. غياب “الحياد القضائي” التجاري: إذا لم يشعر المستثمر (المحلي أو الأجنبي) أن “القضاء التجاري” مستقل تماماً، وسريع، و”محايد” سياسياً، فإنه لن يخاطر برأس ماله في استثمارات طويلة الأجل.
الهيكل الرابع: “السياسة الخارجية” والتحالفات (The “Foreign Policy” Bone)
الاقتصاد العربي ليس معزولاً، وسياساته الخارجية تحدد “مع من” يمكنه العمل.
- 4.1. “المقايضة” الاستراتيجية: القرار السياسي بـ “التحالف” مع (المعسكر الشرقي أو الغربي) يفتح أبواب “أسواق” ويغلق أبواب أسواق أخرى. التجارة والاستثمار هنا “تابعان” للبوصلة السياسية.
- 4.2. المساعدات والقروض “المشروطة”: الكثير من “الدعم” الاقتصادي الخارجي (القروض، المساعدات) لا يأتي مجاناً. إنه مرتبط بـ “شروط” و”مواقف” سياسية يجب على الدولة اتخاذها، مما يقيد سيادتها الاقتصادية.
الخلاصة (الذيل):
في العالم العربي، لا يمكن “فصل” الاقتصاد عن السياسة. السياسة ليست مجرد “عامل مؤثر”، بل هي “نظام التشغيل” الذي يحدد “الكود المصدري” (Source Code) للاقتصاد بأكمله. أي “إصلاح اقتصادي” حقيقي يتجاهل “الإصلاح السياسي” (الاستقرار، الشفافية، سيادة القانون) هو مجرد “تحديث للبرامج” على “نظام تشغيل” معطوب.

اترك تعليقاً